جمعية الفنانين الكويتيين

بقلم : يوسف الحمدان

مملكة البحرين

إن العنصر الأساسي في المسرح هو الممثل الذي ظل مصدرا للنزاعات حتى صار كاهن الفن ، ارتدى وخلع لكنه العنصر الأساسي في المسرح منذ بداياته وحتى قرون قادمة ..
وُجد هذا الممثل في ظروف صعبة لم تساعده على التجلي والحضور والإبداع ، فصارت كل الأشياء المصطنعة تحول الطاقة الفعالة لديه إلى مادة ميتة ، إن الممثل مثل السوبر ماريونيت ، مادة بيضاء لا تطفيء ما يوجد فيها ، وقد ساهم مخرجون مبدعون مثل فاختنجوخ وتادوش كانتور بإزالة الزيف عن الممثل ، وقام ليستراسبورغ وغروتوفسكي باكتشافات مهمة طورت من أداء الممثل .
ومن المعروف أن جوهر الممثل الطبيعي والواقعي هو المعايشة والذوبان في الدور حتى النهاية ، ولقد وقف مايرخولد و تايروف ضد هذا النهج انطلاقا من أن هذا الذوبان عملية ليس فيها إبداع ، لأن العلاقة الحية والفعالة هي المهمة بين الممثل وجمهوره ، وهذا أدى بنا ـ بطبيعة الحال ـ إلى أن التمثيل عبارة عن خلاصة الانفعالات الإنسانية وهي التي تؤدي إلى الإبداع وإلى الوصول بنا إلى شكل أشبه بالمعزوفة الموسيقية الرفيعة منه إلى فوتوغرافية الحياة .
إن تجسيد الممثل لدوره يعتبر رؤية إبداعية تصل بنا إلى الفن المبدع في المسرح ، فكل المسرحيين الذين أضاءوا لنا المسرح إضاءة غير تقليدية لم يتخلف عنهم الممثل ولم يستطيعوا أن يتخلوا عنه ، ولأن التجريب تطور على مر الأزمان ، كان على الممثل أن يطور من أدوات لغته أيضا .
إن قضية الإيهام والتصوير الفوتوغرافي لم تعد مهمة لدى الممثل ، إذ المهم لديه هو أن يؤدي دوره ضمن مسافة دقيقة حتى لا يتعايش مع دوره إلى النهاية .
لم يعد هذا الممثل ممثلا للطبيعة ، وإنما للعمل الفني ، رهين رؤية تجوس أعماق الفن والحياة معا ، ولم يعد المسرح مسرحا للنجوم ، فالمسرح فن جماعي متجدد ، إذ أصبح المسرح يتعامل مع فنانين غير محترفين ، هواة وعاشقين للمسرح ، ويؤكد هذا التعامل المغاير غروتوفسكي وتادوش كانتور وجوزيف تشاينا ، إنهم يتعاملون مع ممثلين هواة ، ولكنهم قدموا أعمالا مهمة للمسرح .
إن الممثل ونفسه ، الممثل ودوره ، لم يسخر منهما غروتوفسكي ، إنه أعاد تشكيلهما واستلهم منهما وطورهما ، فالممثلين عند غروتوفسكي لا يعايشون الدور والشخصية ، ولكنهم أيضا لا يعايشون ذواتهم ، إنهم يبحثون عن شيء غير مباشر ، إنهم يبحثون عن الألم الإنساني الذي تعيشه هذه الشخصية الممثل ، ولأن الثراء اللامحدود في أداء ومهنة الممثل لدى مسرح غروتوفسكي وصل إلى أقصى الحدود ، كما أصل غروتوفسكي نفسه إلى حيرة ، فقد تخطى وتجاوز بهذا الثراء حدود المسرح ، فكانت الورشة المسرحية لديه تخطٍ لما كان يسمى بالمسرح ، لقد وصل غروتوفسكي إلى الحد الأقصى في التجريب ، وصل إلى المسرح الذي يؤدى خارج أطر المبنى ، واستطاع أن ينظم لقاءات حية بين ممثليه والناس ، وهذه اللقاءات جعلت معمل غروتوفسكي المسرحي موحودا حيث يوجد هو ..
يقول غروغوري : ” إن تجربة غروتوفسكي جددت تفكيرنا للمسرح ، ربما لم نصل إلى نتائج محددة أو إلى مسرح تقليدي مفهوم ، ولكن الإبداع التطبيقي هو الذي سوف يستمر ولوبعد وقت طويل ، إن لقائي مع بولندا جعلني أعثر على الحياة ، لقد استطعت أن أخلق تواصلا مع الناس ، شيء من قبيل الثورة ، الثورة الإبداعية وليست السياسية ، شيء نقول بأن الحياة تحيا والموت يموت ” .
كما لعبت الحركة التشكيلية دورا أساسيا في تشكيل الممثل ، ولذلك نجد أن تشاينا وكانتور أكثر الذين غيروا في المسرح على مستوى الفن التشكيلي .
إن الصورة البصرية لدى لدى تشاينا تلعب دورا أساسيا في المسرح ، إنه يرى الكاتب باعتباره صورة ، فالكلمة إذن لديه عنصر يستثير مخيلة السامع حتى تترجم إلى صورة تصل به إلى المسرح ، والمسرح لدى تشاينا مسرح بلا إيهام ، والممثل أصبح لديه كما لو كان تمثالا في عملية تشكيلية ، إنه حدث ، إنه حركة ، إنه حالة ، إنه يمثل عن طريق تشكيل جسده ويقدم لنا أدوارا عدة مختلفة ، وبدون هذه المهارة التشكيلية للجسد يعتبر الممثل مؤديا تقليديا .
أما تادوش كانتور فقد وصل إلى قاعدة أساسية ، وهي أن الممثل مهما قام بأدواره ، في النهاية هو إنسان له مشاعره وطاقاته الإبداعية وحريته في التعبير .
ويرى كانتور إلى أن الممثل لا يستطيع أن يعبر عن كل شيء ، لذلك كان يستخدم المانيكان أوالتمثال الشمعي باعتباره ممثلا ، ولكنه لا يستغني عن الممثل .
يقول كانتور : إنه نوع من السذاجة أن أستغني عن الممثل ، إنه مادة حية قائمة بذاتها ، وتستطيع أن تؤكد كل المعاني التي يود أن يعبر عنها .
إن ممثلي كانتور كانوا ممثلين له فقط ، وكانوا يتشكلون وفق ما يريده هو .
تقول الباحثة والمحاضرة البولندية باربار آلاسوتسكا : ” إن القرن العشرين كان يعتقد أنه يستطيع أن يستغني عن الممثل ، ولكن التجربة أثبتت العكس ، إذ حتى أكثر التجارب تطورا وتطرفا لعزل الممثل والاستغناء عنه فيما بعد هذا القرن لم تستطع أن تخرق حقائق المسرح ” ..
وهذا يدفعنا للسؤال : هل نستطيع أن نقول بأن الممثل سوف يتواجد دوره إلى الأبد ؟ وهل تستطيع بعض التجارب التي تجتهد في إيجاد خريطة مغايرة للممثل غير الحي أن تصمد طويلا ؟ ..