بقلم: د.حسن رشيد/ دولة قطر
يرى بعضهم في «كتارا – الحي الثقافي» معلماً سياحياً… والحقيقة أن هذا الرأي يشكل ظلماً لواقع «كتارا»؛ ذلك أن الثقافة والفن والفكر والنبش في ذاكرة الأجيال جزء من مهام «كتارا»… هناك إحياء طوال العام للعديد من استرجاع صور الماضي إلى جانب الفعاليات الفنية، مثل إحياء التراث الغنائي، مثل «النهمة» على سبيل المثال.
كان هناك مشروع آخر، ولولا ظروف الحصار ووباء العصر «كورونا» لكان إحياء «فن الصوت» عبر دعوة عدد من رموز هذا الفن من دول المنطقة، كان من علامات الفنون التراثية عبر دراسات جادة لباحثين من أبناء دول مجلس التعاون… كل هذا خلق لدى الزائر تصوراً لدور «كتارا» الريادي في إحياء الفنون، وما رحلات السفن السنوية إلا تجربة تضاف إلى إحياء كل فنوننا الإبداعية؛ وهذا الأمر قد أكد للجميع أن الخليج أيضاً إبداع إنساني.
«كتارا» إذن واحدة من أكبر المشاريع الفكرية في كل الفنون في مجال الشعر والنثر… في مجال الرواية والدراسات والنشر، واحتضان كل الفعاليات طوال العام… هنا مهرجان للشعر في إطاره الديني والدنيوي… فعاليات مع الآخر ضمن التبادل الثقافي… معارض… ورش… والاهتمام أيضاً بالناتج المحلي وتشجيع الجيل الجديد من الكتّاب وأصحاب القلم والعمل على إصدار نتاجهم…
إلى جانب طرح موضوعات عبر متخصصين في مجالهم، فها هي الباحثة آمال محمود القطاطي تقدم كتابها «عمارة بلا معمارين» ونموذجها البيت القطري قبل النفط» بيت الحجر والطين… وعبر كتابها أخذتني شخصياً إلى الماضي القريب… إلى تلك الفرجان وتلك البيوت والجيران… فجأة تحول كل شيء إلى عمارات شاهقة… تذكرت رائعة فائق عبد الجليل وصرخته كيف أن يد التطور قد غلف واقعه.
الآن، ونحن نقطع سنوات عمرنا، هل يعي ويدرك ويفهم أحفادنا عن ماضي أجدادهم؟! بيوت الطين مثلاً… أو يعي ويدرك قيمة «الفريج»؟! الزمن قد غلف واقعنا مع الأسف بأمور أخرى… وأنا أمر على فريجنا الغانم القديم… أتذكر بيوت الأصدقاء والأهل… تحول إلى مرتع للآخرين…!! أتذكر هنا بيوت فلان… وهنا كنا نجلس… حتى المدرسة الابتدائية المبنى القديم لمدرسة كان ناظرها علي شحاتة والملاصق للمدرسة الابتدائية القديمة تحول إلى موقف للسيارات… الإيقاع السريع غلف واقعنا…!!
وللحديث بقية..
الحديث ذو شجون.. والباحثة آمال القطاطي أعادت لذاكرتنا جزءاً مما كان مخزوناً لدينا من سنوات… ومن يقلب في صفحات الكتاب ويعيش مع تلك البيوت يكتشف أن الحياة تحمل الكثير من المعاني الإنسانية… منها التلاحم، الإيثار، الكرم وكل المعاني الجميلة؛ وهذا الكتاب لا يمكن أن يخلص لأن أمثالنا نعود بالذاكرة إلى طفولتنا، وأن التطور مع الأسف قد غلف كل شيء… فيما مضى كنا زملاء الحياة، نقوم بالعديد من الرحلات..
في صورة الغلاف تذكرت هذا البناء في منطقة «راس المطبخ»، وأتذكر رحلاتنا إلى راس أبو عبود… وإلى العديد من الأماكن… مع الأسف انمحى ما بقي في ذاكرة جيلنا… نعم تلاشت ملامح الأحياء والبيوت… نعم يد الزمن أبقت على بعض الأشياء مثل «مسجد بو القبيب»، ولكن ما كان يحيط بذلك الزمن قد زال…!!
أتذكر الأبواب الخشبية العملاقة… وأتذكر الوارش والنقوش الجبسية الرائعة… وأتذكر عدداً من العمارات المتخصصة في بيع أدوات البحر وأدوات البناء، مثل «المنقور، والدنجل»، وأدوات السفن، مثل «الصل، الودج، الكلفات، والنورة… إلخ».
وإذا عدت بالذاكرة أتذكر الحياة في بساطتها… الخباز الإيراني، والصيف والمبيت فوق الأسطح، وأتذكر الحوش والجليب… ومن ينسى الكندري وهو يضع خطاً بالفحم على الجدران… من يتذكر مهام الأمهات ودورهن في تنظيف زجاج الفنر… أو التريك لاحقاً؟
الآن أقول للباحثة «آمال» ألف ألف شكر.. وجهد أكثر من رائع مع فريق عملك… وشكراً للحي الثقافي – كتارا – في نبش الذاكرة الجمعية… وكم نحن في مسيس الحاجة إلى مثل هذا الطرح… ذلك أن يد التطور قد غلفت كل شيء عندنا.
وإذا كان من كلمة، فإنني توقفت كثيراً أمام الجهد، الذي قام معك ابننا عبد الرحمن العباسي المصور الذي رافقك عبر هذا الكتاب… جهدك واضح في البحث والتنقيب والإعداد… والأجمل أن ظهور هذا الكتاب قد أكد لنا أن قطر متغلغلة في مسامك… وأنك عاشقة لثرى هذا الوطن.
وسؤال بسيط من أين أتيت بالوقت؟ فهذا جهد فريق عمل كامل، ولكن قديماً قيل الحب يأتي بالمعجزات، ولا شك في أن هذا العمل سيكون شهادة على إيمان أمثالك بتاريخ هذا الوطن، وأن بساطة البيوت تأكيد على بساطة الإنسان القطري وارتباطه بوطن منحه شرف الانتماء إليه…
الباحثة آمال… شكراً فقد كنت شاهدةً على عصر كامل…