تحقيق: صالح الغريب
عودة المهنا، امراة لها في نفس كل فنان هنا مكان… رافقت الفن في الكويت عمراً لا تستطيع أن تحدده (قد يكون 60 عاماً)، وخلال هذا العمر زرعت البذور الكثيرة؛ فهي صاحبة أقدم فرقة شعبية في الكويت، ومن فرقتها انطلقت أصوات أول كورس نسائي في أغنية «لي خليل حسين»، وعلى يديها تربت فتيات أول فرقة شعبية للرقص في الكويت.
«الأم» عودة، أم الفنانين، كانت لا تختفي – مع فرقتها – من مناسبة تمر، وكانت تشارك في أجود التسجيلات… كل هذا يجعل اختفاء فرقة عودة المهنا هذه الفترة الطويلة موضع تساؤل.. لماذا حملنا هذا التساؤل إلى «أم» عودة.. مع أمل في التعرف على أم عودة، الماضي… الفن… والنظرة إلى المستقبل…
الأم عودة تتحدث بعفوية مطلقة:
يسموننا الآن أهل الفن، وهذا الاسم لم يكن قديماً… الفرقة الشعبية كان اسمها «عدة» عند أجدادنا الذين غرسوا الجذور.
بعض هؤلاء لحقت بهم، وبعضهم لم أعرفه، ومن عرفتهم كانت لهم مكانتهم الاجتماعية… كانوا أهل فن أصيل، حتى إن النساء كن (ينهمن) مثل الرجال في فن الخماري… وتستمر (الأم عودة) في سرد الذكريات:
عرفت (قطمة) و(موزة السلطان)، وأعجبت بصوت الأخيرة وهي تغني… كان صوتها قوياً، وكنت وقتئذٍ صغيرة.. ومع مرور السنين، واختلاطي بخالتي هدية المهنا أخذت أميل إلى اتجاهها، كانت فنانة… وأعتقد أن اسم ولدها معيوف المهنا ليس مجهولاً، فقد اشتهر بأداء (السنكني)، أما الفرقة، فلها قصة تميل الأم عودة إلى روايتها:
كانت خالتي أم معيوف مريضة، وجاءت أيام (العايدوه)، فطلبت مني أن أنوب عنها، وهكذا تسلمت «العدة» نتيجة ثقة خالتي بمقدرتي. وقد استمر عملي فيها عامين… ثم تبعثرت في ذلك الحين، كانت الأم عودة بين العشرين والخامسة والعشرين من عمرها (من يستطيع أن يحدد).
ثم… تود الأم عودة أن تسترسل لا بأس… حديثها يتجة إلى (العايدوه)… كانت العدة (الفرقة) تستغل مناسبة الحج لتقدم فنها، فتأخذ بالمرور على البيوت: تبدأ بمنازل الشيوخ، فالتجار، فالناس.. وقت العمل بين أذان المغرب والعشاء، ثم استراحة قصيرة، وعودة إلى العمل، طيلة أيام الاستعداد للحج حتى يوم وقفة عرفات… وعندئذٍ تجتمع الفرقة لتوزيع ما كسبت على أفرادها… وفرقة عودة المنها لم تكن الوحيدة… وبإمكان صاحبتها أن تعطينا فكرة عن الفرق التي كانت في الماضي:
هناك فرقة الجيماز، وفرقة المهنا، وفرقة أوريدة الشاذب (وهي فرقة لم تعاصرها)، وكل هذه الفرق كانت تشارك في المناسبات.. في (العايدوه) كانت الأصوات تنطلق مغنية عن الأولاد والبنات:
فلان صغير يعلي بالجود ينشا فلا صغير ويبارك الله فيه وسلمه ربي.. وعندما يكون لدى بعض العائلات نذر، ويتحقق ما نذروا من أجله، فإنهم يسعون إلى الفرقة لتحتفل معهم بذلك.
وليست العايدوه هي مناسبة العمل الوحيدة.. فهناك مناسبات كثيرة، في شعبان مثلاً تكون (الجلاعات).. مع بداية الشهر يبدأ تجمع الفرقة بجميع عناصرها الكورس، وأصحاب الطبول.. ويسيرون في الطريق بأسلوب (العايدوه) مع اختلاف في الكلمة والنغم، في الجلاعات تبدأ الفرقة بعد صلاة المغرب.. وتغني وهي تطوف: طالبين الكريم خير لا سواه، عمر بو فلان طويل، لا بس له كلاو عمر بو فلان لا يضام لا بس له زبون عمر بو فلان يطول… وعندما يكون الأمر متعلقا بامرأة بتغير القول:
راس فلانة طويل والمشط خضعة.
ونتحدث عن الأعراس… كانت هذه مناسبات للعمل… كانت (العدة) هي التي تحيي الزفة، والزفة تبدأ من المسجد، تبدأ بانتظار، وبتسخين الطبول على نار تشتعل خصيصاً، وبإعداد الطيران (الدفوف الكبيرة) وقبل خروج (المعرس) يسبقه زميله ليخبر الفرقة… فيبدأ دورها، وتصاحب العريس حتى مجلسه. وتعاود الغناء حتى يهم (المعرس) بالمغادرة، فتصحبه حتى غرفتة… ويختلف البرنامج قليلاً عندما يكون هناك نذر. هنا تضاف (اليلوات) (جمع جلوة): يضعون العروس على كرسي، ويغطونها بالقماش، وتجلس (المطوعة) أمامها تقرأ في كتاب، وهي محاطة بالبخور والعود.. وأصوات الغناء ترتفع:
أمينة بأمانيها، صلوا عليك يا العدناني، صلوا على خير الأنام…
والناس كانوا كرماء: كيف هناك الأجر (20 روبية)، وهناك ما لا يتفق عليه… فلم تكن توجد في القديم اتفاقات أو عربون – كما هو الآن – ولم يكن الأمر أمر مساومة… فالمسألة تتعلق بفرح.. أصحابه يقدمون كل ما يقدرون عليه ابتهاجاً بزواج الولد أو البنت… وليس أهل الفرح وحدهم… فإذا رغب المعرس في سماع الغناء تحضر الفرقة صباحاً… ويحضر أصدقاؤه، وبعد تقديم (الخماري) ومشاركة الشباب في الطرب، يطلب من رئيسة الفرقة أن تحمل الطار (دف كبير) وتمر به على الجالسين.
ولا تزال الأم عودة في الماضي.. فرقتها تبعثرت، فكيف عادت إلى الحياة؟
لذلك مناسبة:
مرضت إحدى الشخصيات، وشفيت، الفرق الشعبية ساهمت في التعبير عن الابتهاج بسلامة الشخصية، ولم تكن لدي فرقة، كانت هناك (عيدة بنت نصيرة، وخديجة الجيماز، وموزة السلطان)، ودب خلاف بين الثلاثة قبل الاحتفال، وهذا الخلاف فسح المجال لفرقة (سعاد البريكي) حتى تبرز. وكنت مع الفرقة.. كانت (سعادة) تضرب على الطار ببرود فسحبته منها.. وأصبحت نجمة المناسبة حتى إن سعادة طالبتني بقيادة الفرقة… وبقيت معها حتى وفاتها.
واليوم له في جلستنا حديث:
الأم عودة تعتبر (الخماري) أصعب الفنون.. فما رأيها بالجديد؟
تهرب الأم عودة من السؤال قائلة:
– أنا لا أحب إلا الأصوات القديمة.
وكان السؤال الأهم:
أم عودة… أين أنت؟
وتجيب الأم عودة بانفعال:
أول شيء، أحب أن يعرف الآخرون أن فرقتي أول من ساهمت في أول أغنية كويتية فيها كورس نسائي، وهي أغنية «لي خليل حسين»، كذلك قدمت أول فرقة رقص شعبية، وقد ساهمت في عدة أغان كان لفرقتي دور كبير في نجاحها.
أما لماذا لم يطلب مني أن أساهم في تسجيل الأغاني خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، فهذا أمر لا أعرفه… هل سقطت أسهم فرقتي؟ إن الجمهور هو حكمي خلال هذه السنوات الطويلة… ولا يزال الجمهور معي… لماذا لا تلتفت إلى الإذاعة أو التلفزيون؟
سؤال أحيله بكل حرقة إلى جمعية الفنانين، وأنا أطالبها بأن ترعى فرقتي بما تستحق، وأن تحافظ على حقوقها.
مجلة عالم الفن، العدد (1)، 3 أكتوبر 1971