كتب: د.عادل العبدالمغني
أستطيع القول إن عموم تجار الكويت في الماضي شعارهم السمعة الطيبة والصدق والأمانة وعدم الغش والثقة المتبادلة، ويغضب التاجر لو سألته أن يكون الاتفاق مكتوباً على ورق، ويعتبر كلمة الشرف هي أساس التعامل، وليس كما يظن بعضهم أن عملهم ينحصر بالتجارة فقط، فكانت لديهم مساهمات كبيرة في النواحي الاجتماعية والوطنية ومواقف مُشرفة يُسجلها التاريخ بأحرف من نور!!
الحديث عن شخصية تجارية قديمة توفاها الله تعالى قبل 70 عاماً، وشهادتي قد تكون مجروحة؛ فهو جدي يوسف عبدالهادي فهد الميلم، من مواليد الحي القبلي في مدينة الكويت القديمة عام 1882، وعند تتبع سيرته عرفت أنه ركب البحر لسبب؛ حيث جده فهد لديه سفن غوص، وفي الصيف تدرب وعرف وتمرس المهنة وأصبح نوخذة، وشده إلى البر أنه صاهر أحد فروع مشايخ قبيلة العجمان، وارتبط مع سكان البادية بعلاقة وثيقة، من خلال شراء الجلود والأصواف بكميات كبيرة لتصديرها للخارج، وهذه بعض أعماله…
ولكن ماذا قدم لوطنه الكويت؟
كانت جماعة من العوازم تقطن في منطقة الصبيحية في جنوب الكويت، ولديهم مزارع للخضراوات والبطيخ يصدرونها للمدينة وبيوت صغيره مبنية من الطين وحالتهم متواضعة، وعندما رأى عملهم الشاق والمتعب، بنى لهم مسجداً صغيراً، وعندما يأتون للمدينة (يتنقصون) له ببعض من إنتاجهم وفاء للعلاقة الطيبة…!
العمل الخيري الكبير، والذي توقفت عنده بتأن، كما ورد في الوثيقة (على اليسار)، هو شراؤه أرض واسعة الأرجاء في منطقة الشامية في ثلاثينيات القرن الماضي، وحسب ما شاهدت في الأوراق الأخرى المرفقة مع الوثيقة، فقد بلغت مساحة الأرض (103.746) قدماً مربعاً؛ أي ما يعادل (31.621) متراً مربعاً، وتحتوي على مجموعة من آبار المياه العذبةـ وكما أشارت الوثيقة (على اليسار) (أحد موارد الكويت المائية)؛ وهذه العبارة لها دلالات كبيرة لأهمية الماء في الماضي، وأوقفها في سبيل الله تعالى لكل المحتاجين، ونعلم أهمية الماء في الماضي وغلاء ثمنه عندما كانت تستورده السفن الكويتية من منطقة شط العرب، وتلك الآبار وقف في سبيل الله تعالى دون أن ينتفع منها…
وبنى كذلك مسجداً كبيراً في قرية أبرق خيطان عام 1950 عندما كانت بيوت القرية من الطين، وكان المسجد الوحيد الذي تقام فيه صلاة الجمعة لكبر حجمه ومساحته…!
وتخبرني والدتي دائماً قصصاً كثيرة عن جدي؛ فهي من مواليد 1914، وتقول في إحداها: عندما كنت صغيرة، شاهدت في بيتنا الكبير حركة غير طبيعية واستنفاراً وأسلحة وبنادق لأول مرة أشاهدها في حياتي وأكياساً ثقيلة فيها قطع صغيرة من النحاس (تقصد الذخيرة)… وشقيقات والدي يبكون ولا أدري السبب…؟
خرج والدي مع شقيقه إبراهيم بعد أن قبل رأسي وزاد النواح والبكاء في البيت…!!
بعد أيام رجع والدي وحيداً من دون عمي إبراهيم الميلم، فلقد استشهد في حرب الجهرة بعد أن نفدت كل ذخيرة جدي وشقيقه الشهيد، وتحقق النصر للكويت في المعركة…!!
له عمل خيري فريد من نوعه، ولربما الأول في الكويت؛ ولعلاقته الوثيقة مع أهل البادية ومعرفته بالجمال وأنواعها وأحجامها؛ حيث سّير حملة للحج في العشرينيات بالمجان لأهله وأقاربه وللفقراء الذين لا يستطيعون تحمل مصاريف الحج دون أي مقابل، وتطورت الحملة في سنوات الأربعينيات…
من القصص العجيبة، التي روتها لي والدتي، عندما كان جدي في محله بالسوق، ويتردد عليه كثير من سكان البادية لمعرفته بهم ويودعون لديه بعض الأمانات، وشأن سكان البادية مع كثير من تجار الكويت بمثل هذه الطريقة، جاء في أحد الأيام بدوي كان أودع أمانة لدى تاجر آخر؛ ليأخذ أمانته التي أودعها في العام الماضي… ويبدو أن البدوي أخطأ في المحل لعدم ترددهم باستمرار على المدينة، وجاء إلى جدي وطلب الأمانة؛ وهي عبارة عن كمية من النقود المعدنية، وابتسم جدي وأعطاه ما طلب دون أن يقول له ليس لك عندي أمانة…!! ولو حدث لافتعل البدوي ضجة وعلا صوته للمطالبة بحقوقه…!!
وأعطاه ما طلب وأجلسه لتناول القهوة…!!
وبعد أن خرج البدوي اكتشف أن أمانته أودعها عند تاجر آخر غير جدي ورجع ليعتذر وطلب السماح…!!
وعندما سأل الحاضرون في المحل عن سبب الدفع للبدوي، قال جدي: اشتريت سمعتي، وهذه نقودي رجعت لي مره ثانية، ومال الحلال لا يضيع…!
هذا نموذج واحد للتاجر الكويتي في الماضي ودوره الإنساني والاجتماعي، وهناك المئات والآلاف من المواقف والأعمال الكبيرة لتجار الكويت.