بقلم: د. خالد القلاف
الحلقة 24 ..
هذا الكتاب يسلط الضوء على أثر الأغنية الشعبية في حياة شعوب دول الخليج العربية، ويبحث جملة من فنون أغاني البحر في الكويت.
ويهدف د.خالد علي القلاف، مؤلف الكتاب، الذي حمل عنوان «الخصائص الفنية لأغنية البحر بدولة الكويت»، وتنشره «عالم الفن» على حلقات، إلى تأصيل التراث الشعبي، ومواصلة مسيرة جيل من الرواد الذين اشتغلوا في هذا المجال الخصب، والكتاب يتكون من 261 صفحة ويتوزع على خمسة فصول.
التدوين:
شواهد الصوت باللهجة العامية:
كلمات مجهولة المؤلف وألحان منسوبة إلى عبدالله الفرج:
يادان دانـا لدانا يا دان دانـا لدانا يادان دانـا لدانا
البارحة فـي عتيم الليـل، ناحت حمامه، بالصوت مترنمه
صاحت بصوت لهـا، من فوق راس العدامه، محد لها فاهمه
والله لـولا الحيـا، وادرى وخاف الملامة، لاحبه من مبسمه
التدوين:
لذا: فالمفهوم العام للشعر الغنائي هو: القصيدة، التي تحمل في طياتها مقومات القبول الجماعي عند الشعب سواء أكانت باللغة العربية الفصحى، أم كانت بالعامية، يتداولها المجتمع ضمن مفاهيم اجتماعية يرغب في ممارستها، ويستأنس بتداولها خلال معايير اجتماعية، وتوظف القصيدة للمناسبة التي صيغت من أجلها.
على أن بعض الشعراء يكيف ملكة الشعر للأوزان الدارجة في أغانيهم الفطرية، التي يتداولها المجتمع، وعادة ما تكون خارجة عن نظام البحور في القصيدة العربية الفصحى، كالأوزان المهملة، أو ضمن الفنون السبعة، التي أحدثها المولدون في العصر العباسي، مثل فن القوما، أو بحر الممتد، الذي يعد عكس بحر المديد وغيرهما من البحور المهملة، التي يتقبلها المجتمع ويتغنى على أوزانها ويتضح ذلك من خلال: فن القوما، وفنون السامري النقازي، في دولة الكويت، حيث إن فن القوما يرتكز على التفاعيل الآتية: مستفعلن فعلان مستفعلن فعلان.
ومن شواهده في الأدب العربي:
يا سيد السادات لك في الكرم عادات
أنا ابـن نقطة تعيش أبويـا مـات
/ه/ه//ه /ه/ه ه /ه/ه//ه /ه/ه ه
مستفعلن فعلان مستفعلن فعلان
ويقابله في التراث الشعبي الكويتي سامرية:
يا ساحل الفنطاس يا ملعب الغزلان
/ه/ه//ه /ه/ه ه /ه/ه//ه /ه/ه ه
مستفعلن فعلان مستفعلن فعلان
التدوين:
كما يقابله أيضاً السامرية النقازية:
برده يجي نسناس ياسهيل يا الجنوب
/ه/ه//ه /ه/ه ه /ه/ه//ه /ه/ه ه
مستفعلن فعلان مستفعلن فعلان
التدوين:
يضاف إلى ذلك بعض البحور المهملة كبحر الممتد، وهو عكس بحر المديد، التي تكون تفعيلاته مجزوءة وجوباً، وهي:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
وتفعيلات بحر الممتد تأتي عكسه على وزن:
فاعلن فاعلاتن فاعلن
/ه//ه /ه//ه/ه /ه//ه
ومن شواهده في التراث الغنائي الكويتي فن لعبوني:
يا علي صحت بالصوت الرفيع
للمره لا تذبين القناع
التقطيع:
يا ع لي / صح ت بص صو/ تر رفيع
لل م ره / لا ت ذب بي/ نل ق ناع
/ه//ه /ه//ه/ه /ه//ه ه /ه//ه /ه//ه /ه /ه//ه ه
فاعلن فاعلاتن فاعلان فاعلن فاعلاتن فاعلان
ويضيف الأستاذ أحمد باقر مفهوماً آخر للشعر الغنائي بقوله: «إننا نفضل التعامل مع الشعر الغنائي، الذي يمتلك من مقومات التنوع في بحور الشعر ضمن أبيات القصيدة في تشطير الأبيات بعكس القصيدة العمودية الملتزمة بنفس البحر والوزن، وهي لا تتيح للملحن تنوع الميزان في اللحن، وهذه الخاصية لا يدركها إلا الملحن، أما المستمع فلا يدركها». مع أن الشعر العربي بشكله العام شعر يغنى، بل إن الغناء يمثل المضمار الأساسي، الذي يبنى عليه الشعر العربي؛ لقول الشاعر حسان بن ثابت:
تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
فمن السمات المميزة للإنسان العربي: ارتباطه بالشعر، لما له من أهمية اجتماعية، فهو متنفس رحب لبسط أحاسيسه ومآثره، ولم يكن قيام أسواق خاصة يجتمع فيها الشعراء عند العرب إلا تأكيداً على مكانة الشعر في نفس الإنسان العربي منذ القدم، ومن الظواهر الملموسة أن الشاعر الجاهلي أميّ، وليس في جيله علم عروضي يحفظه كي يقوم بوزن الشعر، حيث يتغنى بالشعر أو يترنم به على نسق شعر مغنى؛ فالغناء بالشعر والترنم بألحان بسيطة يقصد من خلالها وزن الأبيات الشعرية حتى تستقيم على وزن نغمي محفوظ مسبقاً، وإلى ذلك يشير الجاحظ بقوله: العرب تقطع الألحان الموزونة: على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن؛ فتضع موزوناً على غير موزون. والشاعر الجاهلي في الأعم يغني شعره غناء؛ حيث نجد التداخل اللغوي بين الغناء والإلقاء في قولهم: «غنى وتغنى وغيرهما من ألفاظ الإلقاء الشعري». كما نجد قول عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: «أسمعني شيئاً من غنائك»، ولم يقل من شعرك؛ فهذه الأقوال وغيرها تدل على أن الشاعر كان يغني شعره، أو أن ذلك هو الأعم الأكثر، لذا يعد التغني أمراً متعارفاً عليه، حتى إن كلمة غنى وحدها أصبحت تعني قول الشعر وترادفه؛ يقولون: «تغنى فلان بفلان أو فلان بفلانة أو حدا بفلان أو فلانة إذا صنع في أحدهما شعراً».
قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني
به أتغنى باسمها غير معجم
وقال المراد الأسدي:
ولو أني حدوت به ارفأنت
نعامة أبصرت ماذا تقول
ومن هنا يتضح أن الغناء في الشعر: تعبير موسيقي يسبق ولادة البيت ويصاحبها؛ لأنه وزن موحد للقصيدة، فإذا تمت القصيدة مستقيمة الوزن، أصبح الغناء غير ضروري للشاعر، إلا أن تدعو إليه حالة جديدة. أما الإنشاد، فيكون بعد ميلاد القصيدة، وليس الغرض منه إيجاد الوزن؛ لأنه قد وجد، وليس الغرض منه أيضاً اكتشاف صحة الوزن؛ لأن الشاعر قد اكتشف صحته بسبيل يقيني هو الغناء؛ لذا: فالإنسان العربي يعرف قصيدة بحر ما، ويميزها عن قصيدة بحر آخر باسم اللحن الغنائي من دون أن يعرف تفعيلات البحر أو أن يكون لها عنده اسم، فاللحن هو مقياس صحة الوزن عند الجاهليين قبل اكتشاف علم العروض، كما أن المادة النغمية تعد إحدى خصائص انتشار الشعر وتداوله على ألسنة العامة من الناس، فالغناء – في هذه الحالة – يسهم في انتشار القصيدة، ويضمن شهرتها واستمرار تداولها بين الأجيال، أثناء ممارساتهم الاجتماعية كأفراحهم وأحزانهم، ومدحهم وهجائهم.
وقد انتهج بعض الشعراء الغنائيين في العصر الحديث أسلوباً في الشعر الغنائي، حيث يجمع الشاعر في القصيدة الواحدة أكثر من بحر، وهذا ما يعرف عند بعض الدارسين بمجمع البحور، ومن الأمثلة على ذلك قصيدة (قصة الأمس) للشاعر أحمد فتحي، ومن غناء أم كثلوم من مقام النهاوند:
فمطلعها (من مجزوء الكامل):
أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي
أنت الذي بدأ الملالــة والصدود وخان حبي
ويلي ذلك مقطع البيت (من بحر الرمل التام):
كنت لي أيام كان الحب لي
أمل الدنيا ودنيا أملــي
حين غنيتك لحــن الغزل
بين أفراح الغرام الأول
ويلي ذلك مقطع (من بحر السريع):
وعدتني ألا يكون الهـوى
ما بيننا إلا الرضا والصفاء
وقلت لي: إن عذاب النوى
بشرى تواتينا بقرب اللقاء
ويلي ذلك مقطع (من مجزوء الرمل):
ثم أخلفت وعـودا طاب فيها خاطري
هل توسمت جديدا لغــرام نادري؟
ولعل من أساليب هذا الضرب في تنويع الأوزان في القصائد الغنائية، التي تحوي أكثر من بحر مرجعه إلى أصول الغناء العربي القديم في فن الموشحات، الذي اعتمد عليه كثير من الشعراء الغنائيين في العصر الحديث.
إلا أن الشاعر عبدالله العتيبي استلهم هذا التنوع في فن القصيدة الحديثة، ما جعله يواكب الشعر الشعبي أو النبطي في تلوين بعض القصائد المغناة بنفس الأسلوب، معتمداً على تزاوج البحور النبطية في تجديد القصيدة الشعبية في أسلوب يواكب مسيرة غناء الموشحات في التأليف لقوالب البحور، التي تتناغم مع معطيات التلحين في الموسيقى العربية، من تنوع للمقامات الموسيقية في كل مقطع غنائي، وستتطرق لها هذه الدراسة لاحقاً.